سورة سبأ - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (سبأ)


        


يقول الحق جلّ جلاله: {الحمدُ لله} إن أُجري على المعهود فهو بما حمد به نفسه محمود، وإن أجرى على الاستغراق فله لكل المحامد الاستحقاق. واللام في {لله} للتمليك؛ لأنه خالقُ ناطقِ الحمد أصلاً، فكان بملكه مالك للحمد، وللتحميد أهلاً، {الذي له ما في السماوات وما في الأرض} خلقاً، وملكاً، وقهراً، فكان حقيقياً بأن يُحمد سرًّا وجهراً، {وله الحمدُ في الآخرة} كما له الحمد في الدنيا؛ إذ النعم في الدارين هو مُوليها والمُنعم بها. غير أن الحمد هنا واجب؛ لأن الدنيا دار التكليف. وثمَّ لا؛ لأن الدار دار التعريف، لا دار التكليف. وإنما يحمد أهل الجنة سروراً بالنعيم، وتلذذاً بما نالوا من الفوز العظيم، كقوله: {الْحَمْدُ للهِ الَّذِى صَدَقَنَا وَعْدَهُ...} [الزمر: 74] و{الْحَمْدُ للهِ الَّذِى أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ...} [فاطر: 34] فأشار إلى استحقاقه الحمد في الدنيا بقوله: {الحمد لله الذي له ما في السماوات وما في الأرض} وأشار إلى استحقاقه في الآخرة بقوله: {وله الحمدُ في الآخرة وهو الحكيمُ} بتدبير ما في السماوات والأرض، {الخبيرُ} بضمير مَن يحمده ليوم الجزاء والعَرْض.
{يعلمُ ما يَلِجُ} ما يدخل {في الأرض} من الأموات والدفائن، {وما يخرج منها} من النبات وجواهر المعادن، {وما ينزلُ من السماء} من الأمطار وأنواع البركات، {وما يعرجُ} يصعد {فيها} من الملائكة والدعوات، {وهو الرحيمُ} بإنزال ما يحتاجون إليه، {الغفورُ} بما يجترئون عليه. قاله النسفي.
الإشارة: المستحق للحمد هو الذي بيده ما في سماوات الأرواح؛ من الكشوفات وأنواع الترقيات، إلى ما لا نهاية له، من عظمة الذات، وبيده ما في أرض النفوس؛ من القيام بالطاعات وآداب العبودية وتحسين الحالات، وما يلحق ذلك من المجاهدات والمكابدات، وبيده ما يتحفهم به في الآخرة، من التعريفات الجمالية، والفتوحات الربانية، والترقي في الكشوفات السرمدية. فله الحمد في هذه العوالم الثلاثة؛ إذ كلها بيده، يخص بها مَن يشاء من عباده، مع غناه عن الكل، وإحاطته بالكل، ورحمته للكل. يعلم ما يلج في أرض النفوس من الهواجس والخواطر، وما يعرج منها من الصغائر والكبائر، أو من الطاعة والإحسان من ذوي البصائر، وما ينزل من سماء الملكوت من العلوم والأسرار، وما يعرج فيها من الطاعات والأذكار، وهو الرحيم بالتقريب والإقبال، الغفور لمساوئ الضمائر والأفعال.


قلت: {ولا أصغر} و{لا أكبر}: عطف على {مِثْقال}، أو: مبتدأ، وخبره: ما بعد الاستثناء. و{ليجزي}: متعلق بقوله: {لَتَأتينكم}، وتجويز ابن جزي تعلقه بيعزب بعيد؛ لأن الإحاطة بعلمه تعالى ذاتية، والذاتي لا يُعلل، وإنما تعلل الأفعال؛ لجوازها، ويصح تعلقه بما تعلق به {في كتاب} أي: أحصى في كتاب مبين للجزاء.
يقول الحق جلّ جلاله: {وقال الذين كفروا} أي: منكرو البعث. والناطق بهذه المقالة أبو سفيان بن حرب، ووافق عليها غيره، وقد أسلم هو. قالوا: {لا تأتينَا الساعةُ} وإنما هي أرحام تدفع، وأرض تبلع. قبَّح الله رأيهم، وأخلى الأرض منهم. {قلْ} لهم: {بلى} أبطل مقالتهم الفاسدة ببلى، التي للإضراب، وأوجب ما بعدها، أي: ليس الأمر إلا إتيانها، ثم أعيد إيجابه، مؤكداً بما هو الغاية في التوكيد والتشديد، وهو التوكيد باليمين بالله عزّ وجل، فقال: {وربي لَتأتينَّكم}.
ولمَّا كان قيام الساعة من الغيوب المستقبلية الحقية أتبعه بقوله: {عالم الغيبِ}، وقرأ حمزة والكسائي: {علاّم الغيب}، بالمبالغة، يعلم ما غاب في عالم ملكه وملكوته، {لا يَعْزُبُ عنه}: لا يغيب عن علمه {مثقالُ ذرة}: مقدار أصغر نملة {في السماواتِ ولا في الأرض ولا أصغرُ من ذلك} أي: من مثقال ذرة {ولا أكبرُ إِلا في كتاب مبين} في اللوح المحفوظ، أو في علمه القديم، وكنَّى عنه بالكتاب؛ لأن الكتاب يحصي ما فيه.
قال الغزالي، في عقيدة أهل السنة: وأنه تعالى عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرض إلى أعلى السماوات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، يعلم دبيب النملة السوداء، على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويُدرك حركة الذر في جو السماء، ويعلم السر وأخفى، ويطّلع على هواجس الضمائر، وحركات الخواطر، وخفيات السرائر، بعلم قديم أزلي، لم يزل موصوفاً به في أزل الأزل. اهـ.
ثم علل إتيان الساعة بقوله: {ليجزيَ الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرةٌ} لِما اقترفوا من العصيان، وما قصروا فيه من مدارج الإيمان، {ورِزق كريم} لِمَا صبروا عليه من مناهج الإحسان. {والذين سَعَوْا في آياتنا مُعَاجِزين} بالإبطال وتعويق الناس عنها، {أولئك لهم عذابٌ من رِجْزٍ أليم} أي: لهم عذاب من أقبح العذاب مؤلم. ورفع {أليم} مكي وحفص ويعقوب، نعت لعذاب، وغيرهم بالجر نعت لرجز. قال قتادة: الرجز: سُوء العذاب.
الإشارة: بقدر ما يربو الإيمان في القلب يعظم الإيمان بالبعث وما بعده، حتى يكون نُصب عين المؤمن، لا يغيب عنه ساعة، فإذا دخل مقام العيان، استغرق في شهود الذات، فغاب عن الدارين، ولم يبقَ له إلا وجود واحد، يتلون بهيئة الدنيا والآخرة. وفي الحقيقة ما ثَمَّ إلا واحد أحد، الأكوان ثابتة بإثباته، ممحوة بأحدية ذاته. كان الله ولا شيء معه، وهو الآن كما كان، ويكون في المآل كما هو الآن. والله تعالى أعلم.


قلت: {ويرى}: مرفوع، استئناف، أو منصوب، عطف على {ليجزي}. و{الحق}: مفعول ثان ليرى العلمية. والمفعول الأول: {الذي أُنزل} وهو ضمير فصل.
يقول الحق جلّ جلاله: {ويَرَى الذين أُوتوا العلم} من الصحابة، وممن شايعهم من علماء الأمة ومن ضاهاهم، أو علماء أهل الكتاب الذين أسلموا، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، أي: يعلمون {الذي أُنزل إِليك من ربك} يعني القرآن {هو الحق} لا يرتابون في حقيّته؛ لِما نطوى عليه من الإعجاز، وبموافقته للكتب السالفة، على يد مَن تحققت أميته. أو: ليجزي المؤمنين، وليعلم أولو العلم عند مجيء الساعة أنه الحق، علماً لا يزاد عليه في الإيقان، لكونه محل العيان، كما علموه في الدنيا من طريق البرهان. {ويهدي إِلى صراط العزيز الحميد} وهو دينُ الله، من التوحيد، وما يتبعه من الاستقامة.
الإشارة: أول ما يرتفع الحجاب عن العبد بينه وبين كلام سيده، فيسمع كلامه منه، لكن من وراء رداء الكبرياء، وهو رداء الحس والوهم، فيجد حلاوة الكلام ويتمتع بتلاوته، فيلزمه الخشوع والبكاء والرِقة عند تلاوته. قال جعفر الصادق: لقد تجلّى الحق تعالى في كلامه ولكن لا تشعرون. ثم يرتفع الحجاب بينه وبين الحق تعالى، فيسمع كلامه بلا واسطة ولا حجاب، فتغيب حلاوة الكلام في حلاوة شهود المتكلم، فينقلب البكاء سروراً، والقبض بسطاً. وعن هذا المعنى عبّر الصدِّيق عند رؤيته قوماً يبكون عند التلاوة، فقال:كذلك كنا ولكن قست القلوب فعبّر عن حال التمكُّن والتصلُّب بالقسوة؛ لأن القلب قبل تمكُّن صاحبه يكون سريعَ التأثُّر للواردات، فإذا تمكّن واشتد لم يتأثر بشيء. وصراط العزيز الحميد هو طريق السلوك إلى حضرة ملك الملوك. وبالله التوفيق.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8